كيف ألهمت الحضارة المصرية القديمة مشاريع إيلون ماسك الفضائية؟

كيف ألهمت الحضارة المصرية القديمة مشاريع إيلون ماسك الفضائية؟

“مصر القديمة كانت متوهجة!”

تغريدة مقتضبة صغيرة تحتوي على “إيموجي” لشعلتين من نار، ردّ بها أشهر أثرياء العالم، الملياردير إيلون ماسك، على فيديو صغير نشره أحد مستخدمي تويتر، يصوّر فيه عدة سراديب داخلية مزدانة بالنقوش المصرية القديمة داخل معبد “دندرة” الواقع في مدينة قنا بصعيد مصر. ومع قصر التغريدة، فإنها -كعادة ماسك في إثارة الجدل طوال الوقت- تسببت في موجة تعليقات عالمية ومصرية واسعة.

التغريدة التي نُشرت يوم 12 يناير/كانون الثاني الحالي، حققت خلال ساعات أكثر من 8 ملايين مشاهدة وأكثر من 70 ألف علامة إعجاب إلى جانب الآلاف من إعادة التغريد، وهو ما جعل الردود عليها تمتلئ بتعليقات المصريين التي ركزت معظمها على دعوة مؤسس “تيسلا” و”سبيس إكس” ومالك موقع تويتر إلى زيارة مصر في أقرب وقت، وأظهر اندفاعا منظما من الوزراء ورجال الأعمال والإعلاميين المصريين للاستفادة من شعبية الرجل العالمية لإنعاش السياحة المصرية.

على سبيل المثال، ردت وزيرة التعاون الدولي المصرية “رانيا المشاط” على التغريدة بدعوة ماسك لاكتشاف “المزيد من القصص غير المروية عن مصر القديمة في المتحف المصري الكبير”، بينما رحب رجل الأعمال نجيب ساويرس بالتغريدة، ومازح الفنان الكوميدي “محمد هنيدي” ماسك عارضا عليه أن يكون مرشده الخاص في مصر، بينما دعا الإعلامي عمرو أديب الحكومة المصرية للتحرك بسرعة لاستغلال الفرصة، قائلا: “لو مكان الحكومة (في موضعها)، ابعتله (أرسل له) حالا طيارة (طائرة) خاصة تجيبه (تحضره) على معبد دندرة!”.

وبغض النظر عن التهافت الكبير للاستفادة من شهرة الرجل عالميا، فإن الكثيرين ربما لا يعرفون أن “مصر” كانت دائما حاضرة في الكثير من الأفكار التي صرّح بها إيلون ماسك خلال السنوات الماضية في مواقف مختلفة، وأن الأمر بالنسبة لماسك ليس مجرد إعجاب “سياحي” بالآثار القديمة فقط، بل يحمل ما هو أعمق بكثير.

مخلوقات فضائية مرة أخرى

لم تكن هذه هي التغريدة الأولى لماسك حول مصر القديمة، فبالرجوع عدة سنوات إلى الوراء، وبالتحديد إلى نهاية يوليو/تموز 2020، زعم ماسك في تغريدات له آنذاك أن المخلوقات الفضائية هي التي بنت الأهرامات، مُبديا دهشته الكبيرة تجاه الهرم الأكبر الذي تربَّع على عرش أكثر المباني ارتفاعا في التاريخ على مدار أكثر من 3800 سنة، ومُدرجا رابطا لفيلم وثائقي من إنتاج محطة “بي بي سي” البريطانية لشرح كيفية بنائه، ثم أردف ذلك بتغريدة أخرى يصف فيها الملك المصري “رمسيس الثاني” أحد أهم ملوك مصر القديمة على الإطلاق بأنه “بالتأكيد كان كائنا فضائيا”.

نالت تلك التغريدات انتشارا هائلا، مع قرابة نصف مليون علامة إعجاب، وعشرات الآلاف من إعادة التغريد (ريتويت)، مع عدد هائل من التعليقات ما بين ساخرة ومؤيدة ومُستهجنة. ورغم أن السياق يوحي أن ماسك يستخدم لفظ “الكائنات الفضائية” من باب المزاح أو المبالغة في إعجابه الشديد بالحضارة المصرية القديمة وأهراماتها وملوكها ومدى الإبداع الذي وصلوا إليه، فإن الكثير من التعليقات اتهمت ماسك بالترويج لخرافات وأفكار خيالية غير مثبتة.

انقسمت ردود المصريين آنذاك إلى قسمين، القسم المعتاد الذي تُمثِّله وزارة السياحة المصرية التي دعت إيلون ماسك لزيارة مصر وعمل جولة في الأهرامات بنفسه، وقسم آخر انبرى للدفاع عن التاريخ المصري ودحض حجة بناء الأهرامات بواسطة فضائيين، على رأسهم عالم المصريات الشهير “زاهي حواس” الذي اتهم ماسك آنذاك بأنه أطلق هذه المزاعم لأنه “عايز يتشهر” (يطلب الشهرة)، وهو ما أثار موجة سخرية واسعة ضد الرجل، باعتبار أن ماسك قطعا لا يحتاج إلى الشهرة (2). لاحقا، خرج الدكتور زاهي حواس بعد التغريدة الأخيرة لماسك قائلا إنه مستعد أن يصطحبه في جولة داخل الهرم بنفسه، ويشرح له قصة بنائه منذ البداية.

رحلة في عقل ماسك

في الواقع، فإن اهتمام إيلون ماسك بمصر ليس اهتماما سياحيا بشكل كامل، بقدر ما هو اهتمام قديم له علاقة مباشرة بفلسفة مشاريعه الذكية المستقبلية، خصوصا شركة “سبيس إكس” (Spacex) للصناعات الفضائية، التي لخّص هدفها الأساسي في “تأسيس حياة بشرية على كوكب المريخ خلال القرن الحالي”. وعندما يُسأل ماسك عن فلسفته وراء وضع هدف كبير كهذا -نقل البشر إلى المريخ-، فهو يميل عادة إلى شرح رؤيته للكون من البداية، مُشيرا إلى “مغزى الحياة نفسها” (The meaning of life).

في بودكاست طويل بُث عبر قناة “Tesla Owners Silicon valley”، استُضيف إيلون ماسك ووجهت إليه أسئلة في فضاءات مختلفة، من بينها أسئلة حول نظرته للحياة والكون وانعكاس ذلك على مشاريعه، وقد قال ماسك إن أول صدمة وجودية عنيفة حدثت له في فترة المراهقة عندما بدأ يتساءل عن معنى الحياة وأهميتها، أو إن كان لها معنى بالأساس. وبحسب تعبيره، لم تقدم له النصوص الدينية إجابات مقنعة في تلك الفترة، ما جعله يلجأ إلى الفلسفة.

بدأ ماسك القراءة لبعض الفلاسفة، واصطدم -بحسب تعبيره- بفلسفات نيتشه وشوبنهاور المغرقة في التشاؤم، التي نصح المراهقين بأنها ليست أفضل كتب للقراءة في تلك المرحلة العمرية من حياتهم. في مرحلة لاحقة، قرأ ماسك واحدا من أهم الكتب التي شكّلت تفكيره، وهو “دليل المسافر إلى المجرّة” (The Hitchhiker’s Guide to the galaxy)، وهي واحدة من أشهر وأهم روايات الخيال العلمي التي نُشرت في السبعينيات والثمانينيات، للمؤلف دوغلاس آدامز.

هذه الرواية، التي يعتبرها ماسك كتابا عميقا يتناول أسئلة وجودية كبيرة ولكن في إطار كوميدي مبسّط، طرحت فكرة راقت له للغاية، حيث ذكرت أن المشكلة الأساسية في سؤال “ما معنى الحياة؟” هي ربما أنه قد لا يكون السؤال الصحيح الذي يجب أن نطرحه أصلا، وأن العالم يجب أن يقوم بتطوير هذا السؤال إلى سؤال آخر لم نتوصل إليه بعد، وتكون إجابة هذا السؤال هي: “العالم الذي نراه”.

“دليل المسافر إلى المجرة” هي رواية خيال علمي كوميدي صدرت في نهاية السبعينيات، اعتبرها البعض تعج بالأفكار الوجودية العميقة. (مواقع التواصل)

بعبارة أوضح، يرى ماسك أن الكون الذي نعيشه ونرصده هو “الإجابة”، وأننا يجب أن نعيد التفكير في الأسئلة الصحيحة بناء على تلك الإجابة. ويرى أن من أجل صياغة هذا السؤال المجهول يجب تحويل كوكب الأرض إلى ما يشبه جهاز حاسوب عملاقا يجمع قدرا هائلا من المعلومات، أكثر بكثير مما جمعه البشر على مدار عصورهم، ليتكوّن لديه الوعي الكافي لطرح السؤال المكافئ لهذه الحقيقة: وجود الكون ومعنى الحياة. (3)

فلنتذكر ما حدث للمصريين

“الناس يخطئون الظن أن التكنولوجيا تتطور تلقائيا. هذا غير صحيح، التكنولوجيا لا تتطور إلا إذا عمل حشد كبير من الناس على تطويرها، أو ستذهب إلى الجانب العكسي وهو الاندثار. انظر إلى الحضارات العظيمة مثل مصر القديمة، لقد استطاعوا تشييد الأهرامات بتقنيات مذهلة، ثم ببساطة نسوا كيف فعلوا ذلك”.

(إيلون ماسك، في محاضرة بعنوان “المستقبل الذي نبنيه” على مسرح “Ted” عام 2017)

يعتقد ماسك إذن أنه كلما ازداد مستوى وعينا الجماعي نحن البشر، وكلما استطعنا جمع المزيد من المعلومات حول كل شيء في الوجود، أدى بنا ذلك إلى القدرة على طرح أسئلة صحيحة، أي إن الوعي المتصاعد عبر الأجيال البشرية هو الطريق لكشف النقاب عن الألغاز الوجودية الكبرى بناء على التراكم المعرفي الاستكشافي، وليس الظني الفلسفي أو حتى الاعتقادي الغيبي حسب نظرته.

هنا، في هذه النقطة بالتحديد، يتذكر ماسك دائما ما حدث في التاريخ القديم بوصفه أساسا للفكرة التي يقوم عليها مشروعه الفضائي. يذكر ماسك حقيقة أن الأرض عمرها نحو 5 مليارات سنة، ومنذ 5 آلاف سنة فقط بدأت الكتابة في الظهور ومعها بدأ تأريخ الحضارة البشرية، ثم يستحضر ماسك مثال المصريين القدماء، قائلا إنهم استطاعوا تأسيس حضارة مذهلة في جميع نواحي الحياة الهندسية والفلسفية والطبية، وأن هذه الحضارة استمرت نحو 2500 عام، ثم اضمحلت تماما حتى اختفى آخر شخص في العالم يمكنه قراءة الهيروغليفية، واختفى آخر شخص على وجه الأرض -ينتمي إلى هذه الحضارة- يعرف كيفية بناء الهرم، ناهيك بمعرفة تفاصيل الحاضنة العلمية والهندسية التي قامت ببنائه.

يستحضر ماسك مثال المصريين القدماء، قائلا إنهم استطاعوا تأسيس حضارة مذهلة في جميع نواحي الحياة الهندسية والفلسفية والطبية، وأن هذه الحضارة استمرت نحو 2500 عام، ثم اضمحلت تماما. (جيتي)

هذه “الانتكاسة الحضارية” أعادت كل شيء مرة أخرى إلى الصفر، ودفنت معها مئات العلوم والمعارف التي كان من الممكن البناء عليها واستغلالها في تسريع الوعي البشري وبالتالي تطوير أسئلة أفضل حول معنى الحياة وغاياتها. الأمر لم يقتصر على المصريين القدماء فقط، بل ذكر ماسك أيضا أمثلة أخرى لحضارات العراق وروما التي تحولت إلى آثار ساكنة اندثرت معارفها قرونا طويلة.

يرى ماسك أن هذه “الانتكاسة” التي تعيد حركة التطور البشري كل مرة إلى الصفر ستتكرر مرة أخرى لا محالة، وأن كل ما توصل إليه البشر الآن من معارف وعلوم وفنون، حتى مع انتشارها عالميا، قد تندثر تماما في مواجهة مخاطر كبيرة على رأسها التغير المناخي أو تزايد احتمالات اندلاع حرب نووية، ومن ثم العودة إلى البداية، في رحلة سيزيفية مستمرة تعيدنا للوراء كل مرة تحرز فيها أجيال متعاقبة تقدما جيدا للأمام. (4)

نوع متعدد الكواكب

“أظن أن من المهم للغاية أن نصبح جنسا متعدد الكواكب في أقرب وقت قبل أن تنتكس المعرفة التي وصلنا إليها لأي سبب. أحد السيناريوهات المُحتملة، بل وربما المُرجّحة، أن ندخل في دائرة التراجع نفسها التي مرّت بها جميع الحضارات مثل مصر القديمة حتى أصبح المصريون أنفسهم غير قادرين على قراءة الهيروغليفية ومعرفة كيفية بناء الهرم. أخشى أن يأتي يوم يكون فيه البشر غير قادرين فيه على تذكّر كيفية صناعة سفينة فضاء مثل ستارشيب، والتعامل مع بقاياها باعتبارها لغزا!”.

(إيلون ماسك، بودكاست “Tesla Owners Silicon valley”)

سيارة “تيسلا رودستر”، السيارة الشخصية لإيلون ماسك، بعد أن حُملت على صاروخ فالكون الثقيل وتحرَّرت من الجاذبية، وفي الخلفية كوكب الأرض . (مواقع التواصل)

من هنا جاءت فلسفة ماسك التي طبّقها على مشاريعه الفضائية، وهي ضرورة تحويل الجنس البشري إلى “جنس متعدد الكواكب” (Multi Planet Species) بوصفه الحل الوحيد الذي يضمن استمرار العلوم والحضارة البشرية، بغض النظر عن أي كوارث أو أزمات كبرى قد تهدد الحضارات الحالية أو تعيدها إلى نقطة الصفر، سواء كانت بسبب أزمات المناخ أو اندلاع حروب نووية أو أي تناقص حاد في أعداد البشر.

ولتحقيق تلك الرؤية، أسس إيلون ماسك في عام 2002 شركة “سبيس إكس” للصناعات الصاروخية الفضائية بهدف الوصول إلى كوكب المريخ، وتأسيس “وجود بشري دائم” على الكوكب الأحمر خلال القرن الحالي. وخلال العشرين عاما الماضية، استطاعت “سبيس إكس” تحقيق اختراقات كبيرة في غزو الفضاء، التي من المتوقع أن تتكلل بأول رحلة تجارية إلى المريخ في عام 2024، ثم رحلات بشرية بقدوم عام 2026، ليشهد الكوكب الأحمر -وفقا لخطة ماسك- تأسيس أول مدينة بشرية على سطحه خلال الثلاثينيات من القرن الحالي، ويتحول إلى بيئة ذاتية الاستدامة يمكنها أن تشهد حياة مليون إنسان على الأقل بحلول الخمسينيات أو الستينيات. (5، 6)

في النهاية، ورغم شطحاته المعتادة في تغريداته، فإن اهتمام ماسك بحضارة مصر القديمة وانبهاره بها وهواجسه حول زوالها كانت عنصرا مهما من رؤيته لمشروعه الفضائي لتأسيس وجود بشري خارج الأرض، مدفوعا برغبة عارمة للهروب من تلك اللحظة الكابوسية المكررة لانهيار الحضارة، التي تعيدنا نحن البشر -كل مرة- إلى نقطة الصفر من جديد.

المصادر:

  1. إيلون ماسك: مصر القديمة مذهلة.. ومحمد هنيدي يدعوه لزيارة البلاد ويعده بأن يكون مرشده
  2. مصر تدعو إيلون ماسك لزيارتها بعد تغريدته عن المخلوقات الفضائية التي بنت الأهرامات
  3. Elon Musk explains his ‘motivating philosophy’ and how it revolves around a series of questions about the meaning of life
  4.  Elon Musk On How To Understand The Meaning Of Life And Why We Should Be A Multi-Planet Species
  5. الطريق إلى السماء.. القصة الكاملة لصراع جيف بيزوس إيلون ماسك لغزو الفضاء
  6. Elon Musk: A Million Humans Could Live on Mars By the 2060s

المصدر : الجزيرة